سورة محمد - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (محمد)


        


{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (2) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (3)} [محمد: 47/ 1- 3].
قال ابن عباس ومجاهد: نزلت هذه الآيات في أهل مكة والأنصار، فقوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1)}: هم أهل مكة نزلت فيهم. وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} هم الأنصار، أما أهل مكة فأخرجوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من بلده، والأنصار أهل المدينة آووه، ثم هي بعد تعمّ كل من دخل تحت ألفاظها.
المعنى: الذين جحدوا توحيد اللّه وآياته، وعبدوا غيره، وصدّوا غيره عن الإسلام، بنهيهم عن الدخول فيه، وهم كفار قريش، أبطل اللّه ثواب أعمالهم وأحبطها وضيّعها، ولم يجعل لها ثوابا ولا جزاء في الآخرة، فقوله تعالى: {أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ} أي أتلفها، ولم يجعل لها غاية خير، ولا نفعا. وهذا يشمل جميع أعمال الكفار البرّة في الجاهلية، من صلة الرحم ونحوه، والإنفاق الذي أنفقوه في سفرهم إلى بدر، ومثلها أعمال الكفار في كل زمان. وذلك كما في آية أخرى: {وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23)} [الفرقان: 25/ 23].
وأما الذين صدّقوا بالله ورسوله وبالقرآن، وعملوا صالح الأعمال، واعتقدوا بالحق المنزل من ربهم، فيكفّر اللّه عنهم سيئاتهم، ويصلح شأنهم وحالهم في الدنيا والآخرة، ويغفر لهم سيئاتهم، ويرشدهم إلى أعمال الخير في الدنيا، ويمنحهم نعيم الجنة في الآخرة. وهذا يشمل المهاجرين والأنصار وغيرهم من التابعين لهم بإحسان، والمؤمنين الذي يعملون الصالحات: وهي الفرائض والواجبات، وبقية أعمال البر.
وقوله: {وَأَصْلَحَ بالَهُمْ} معناه حالهم، أو أمرهم، أو شأنهم، وأصل معنى هذه اللفظة: أنها بمعنى الفكر، وموضع نظر الإنسان وهو القلب، فإذا صلح ذلك فقد صلحت حاله، فكأن اللفظة مشيرة إلى إصلاح عقيدتهم وغير ذلك تابع.
ثم أوضح اللّه تعالى أن سبب إضلال الكافرين، وإصلاح وإسعادهم: المؤمنين هو أفعال كل منهم، فالجزاء المتقدم للفريقين بسبب اتباع الكافرين الباطل، من الشرك بالله، والعمل بمعاصيه واختيارهم على الحق، وإصغائهم للشيطان وكل ما يأمر به، وأما جزاء المؤمنين فبسبب اتباعهم الحق وهو الشرع وكل ما أمر اللّه باتباعه من التوحيد والإيمان، والعمل الصالح، واتباع ما جاء به النبي محمد صلّى اللّه عليه وسلّم.
ومثل ذلك البيان الرائع، يبين اللّه للناس أحوال الفريقين الجارية مجرى الأمثال في الغرابة، ويظهر مآل أعمالهم، وما يصيرون إليه في معادهم، فالاتباع المذكور من الفريقين: هو سبب التفرقة بينهما، وجعل ذلك مضرب الأمثال، فكما اتّبعوا هذين السبيلين، وصار مصيرهم على هذا النحو، يجعل اللّه ذلك تبيانا لكل الناس، ومعرفة أمر كل فرقة، ليعتبروا ويحتاطوا للأمر.
إن تبيان جزاء المؤمنين وجزاء الكافرين في الآخرة سلفا في الدنيا، أمر يتفق مع أصول التجريم والعقاب، فلا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، أو لا جزاء إلا بعد إنذار سابق، فإذا عرف الإنسان في الدنيا مصيره في الآخرة، هان الأمر، وظهر الحق والعدل، ولم يبق ما يسوّغ اللوم والعتاب، وامتنعت المفاجأة بعناصرها المعروفة، وحينئذ يكون المرء مأخوذا بذنبه أو بما كسبت يداه، ولا ظلم ولا محاباة ولا داعي للاعتراض أو الانتقاد، قال اللّه تعالى: {إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15)} [القيامة: 75/ 12- 15].
وقال سبحانه: {كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 52/ 21].
أحكام القتال والأسرى:
إذا نشبت الحرب بين المؤمنين وغيرهم، وجب على المؤمنين اتباع قواعد حربية معينة أثناء المعركة وبعد انتهائها، لأن الحرب ضرورة، وخاضعة للنظام، حتى لا تبيد البشرية، وتسود الفوضى، ويصعب تلافي الآثار والنتائج المترتبة عليها.
والإسلام حريص على السّلام والأمن. وانتشار دعوته، إنما هو بالحكمة والإقناع والموعظة الحسنة. وإذا أصرّ العدو على الحفاظ على دينه وأحواله، وجب إبرام المعاهدات التي تنظم العلاقات المختلفة، حتى لا يبغي أحد على أحد، ويطمئن كل طرف إلى وضعه، ومراعاة مصالحه، على قدم المساواة. وهذه آيات تدعو لتنظيم معارك القتال وتسوية آثارها، وتوجيه الطبائع البشرية وجهة صالحة:


{فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (8) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (9)} [محمد: 47/ 4- 9].
آية {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قال فيها قتادة- كما أخرج ابن أبي حاتم- نزلت يوم أحد، ورسول اللّه في الشّعب، وقد نشبت فيهم الجراحات والقتل، وقد نادى المشركون يومئذ: اعل هبل (أكبر أصنامهم) ونادى المسلمون: اللّه أعلى وأجل، فقال المشركون: إن لنا العزّى، ولا عزّى لكم، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: قولوا: اللّه مولانا، ولا مولى لكم.
والمعنى: إذا واجهتم أيها المسلمون الكفار في القتال، فاحصدوهم حصدا بالسيوف، واضربوا الرقاب ضربا. وهذا بمثابة قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 9/ 5] وهذا حكم في أثناء القتال الناشب إذا توافرت أسبابه أو دواعيه المشروعة، وهو قائم على مبدأ المعاملة بالمثل ومراعاة طبيعة القتال وأدواته وهي في الماضي: السلاح الأبيض. وهذه الآية محكمة غير منسوخة مبيّنة لآية {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}. قال ابن عمر، وعمر بن عبد العزيز، وعطاء: إن هذه الآية (آية سورة محمد هنا) محكمة مبيّنة لتلك (آية سورة براءة).
ثم بيّن اللّه حكم الأسر وتوابعه وهو:
حتى إذا أكثرتم فيهم القتل، وتحققت الغلبة لكم عليهم، وانتهت الحرب بتحقيق النصر، فأسروهم وأحكموا القيد عليهم لئلا يفلتوا ويهربوا، ومصيرهم بعد الأسر:
إما المنّ عليهم بإطلاق سراحهم بعوض أو بغير عوض، وإما الفداء بمبادلتهم بالأسرى المسلمين أو بدفع الفداء: وهو المال الذي يفدي به الأسير نفسه من الأسر.
وذلك حتى تضع الحرب أوزارها أي أثقالها وآلاتها: وهذا مجاز عن انتهاء الحرب، أي حتى تنقضي الحرب، بتحقيق الغلبة والنصر.
والمن والفداء ثابت غير منسوخ، صرّح به هنا، ولم يصرح به في آية التوبة السابق ذكرها، وقد منّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على ثمامة بن أثال، وفادى أسرى بدر، كما قال الحسن البصري.
وذلك هو الحكم في قتال الكفار، واللّه قادر على الانتصار من أعدائه، بالانتقام منهم، وإهلاكهم وتعذيبهم، بما شاء من أنواع العذاب كالخسف والرجفة، والغرق دون قتال منكم أيها المؤمنون، ولكن اللّه أمركم بحربهم ليختبر بعضكم ببعض.
والذين قتلوا في سبيل اللّه، أي استشهدوا، فلن يضيع اللّه تعالى أجرهم، ولا يبطل ولا يحبط أعمالهم كإحباط أعمال الكفار وهذا أحد أنواع ثواب الشهداء.
ومن فضل اللّه على الشهداء: أنه تعالى يوفقهم قبل موتهم للعمل بما يحبه ويرضاه، وسيهديهم إلى طريق الجنة، ويصلح شأنهم أو موضع نظرهم وفكرهم وهو القلب. ويرشدهم إلى طريق الجنة التي قد عرّفها وبيّنها لهم، وأعلمهم بها، أي جعلهم يعرفون منازلهم منها.
أخرج البخاري من قوله صلّى اللّه عليه وسلّم: «والذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله في الدنيا».
ثم بشّرهم اللّه بالنصر بشرطه: وهو يا أيها المؤمنون بالله والقرآن والإسلام، إن تنصروا دين اللّه ورسوله، بجدّكم وإيمانكم، ينصركم اللّه بخلق القدرة لكم والجرأة وغير ذلك من المعارف.
والذين كفروا بالله ورسوله، فهلاكا وعثارا وخيبة لهم، وأبطل اللّه أعمالهم، فلا ثواب لهم، ولا خير يرتجى منها في الآخرة. وقوله: {فَتَعْساً لَهُمْ} مقابل تثبيت أقدام المؤمنين المنتصرين، الناصرين لدين اللّه ورسوله.
ذلك التعس أو الهلاك، وإضلال الأعمال أو إبطالها بسبب كراهيتهم القرآن، أي ما أنزل اللّه في قرآنه على نبيه المصطفى صلّى اللّه عليه وسلّم، من التكاليف الإلهية، فهم لا يريدونه ولا يحبونه، فأبطل اللّه ثواب أعمالهم بذلك السبب. والمراد بالأعمال المحبطة أو الملغاة: أعمال الخير أو الحسنات حال الكفر، لأن عمل الكافر لا يقبل قبل إسلامه، وإنما تفيدهم هذه الأعمال الخيرية في الدنيا. وإذا أسلم الكافر يضاف عمله الخيري إلى حسناته في الإسلام.
الاعتبار بآثار الماضين:
رغّب القرآن الكريم في مناسبات مختلفة في النظر في آثار الأمم المتقدمة، والتأمل في أحوال أهل الإيمان وأهل الكفر، للعبرة والاتعاظ، بقصد إصلاح الأفراد والجماعات، حين يعلمون أن اللّه ناصر المؤمنين، وخاذل الكافرين، ثم يكافئ أهل الإيمان بجنان الخلد، لانحيازهم إلى الحق وإيمانهم به، ويعاقب أهل الضلال أو الكفر بنيران الجحيم، لاتباعهم أهواءهم في عبادة الأوثان، وهذه آيات تناسب الكلام على فريقي الناس عادة: مؤمنين وكفارا، قال اللّه تعالى:


{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (10) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14)} [محمد: 47/ 10- 14].
أفلا يتأمل القرشيون المشركون بمصائر الأمم السابقة، فيسيروا في الأرض، فينظروا كيف كان مصيرهم أو عاقبتهم، مثل أرض عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم، ليعتبروا ويروا ما حلّ بهم، كيف دمّر اللّه عليهم ديارهم، واستأصلهم بالإهلاك، وأتلف ممتلكاتهم وأموالهم، بسبب تكذيبهم رسلهم، وما أداه إليه كفرهم، ولهؤلاء الكافرين المكذبين أمثال عاقبة من قبلهم من الكفرة في الدنيا، مثل هزيمتهم في بدر وفتح مكة، ولهم عقاب أشد في الآخرة.
وهذه الآية توقيف لقريش وتوبيخ، نزلت يوم أحد، ومنها انتزع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ردّه على أبي سفيان بن حرب حين قال له: اللّه مولانا، ولا مولى لكم.
وسبب هذا العقاب بالتدمير والاستئصال للكافرين، ونجاة المؤمنين: أن اللّه ناصر عباده الذين آمنوا بالله تعالى، وأطاعوا رسوله، وأن الكافرين المكذبين لرسوله لا ناصر لهم، يدفع عنهم العذاب.
قال قتادة: نزلت يوم أحد، والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم في الشّعب، إذ صاح المشركون: يوم بيوم، لنا العزّى ولا عزّى لكم، فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: «قولوا: اللّه مولانا، ولا مولى لكم».
كما تقدم بيانه.
ثم بيّن اللّه تعالى أحوال المؤمنين والكافرين في الآخرة، فقال عن المؤمنين: إن اللّه يدخل عباده المؤمنين المصدقين بالله ورسوله، والعاملين الأعمال الصالحة جنات تجري الأنهار من تحت قصورها، تكريما لهم.
وأما الذين جحدوا بوجود اللّه وتوحيده، وكذبوا رسوله، فيتمتعون أو ينتفعون بمتاع الدنيا الحقير، ويأكلون منها كأكل الأنعام (الإبل والبقر والغنم) لا همّ لهم إلا ملء بطونهم، وإشباع شهواتهم، والنار مقر لهم أو مثوى، أي موضع الإقامة، والتشبيه بأكل الأنعام يراد به الأكل المجرد من الفكر والنظر، أي إن هذا التشبيه وقع فيما عدا الأكل على قلة الفكر وعدم النظر.
ثم هدّد اللّه مشركي مكة وتوعدهم بما حدث لأمثالهم، فكثير من أهل المدن والأمم السابقة ذات القوة والنفوذ، كانوا أشد بأسا وقوة، من أهل مكة الذين أخرجوك منها، فأهلكناهم، ولم يجدوا لهم ناصرا ولا معينا يدفع عنهم العذاب. فإذا أهلك اللّه تعالى عتاة الأمم الذين كذبوا الرسل. فسيفعل الأمر نفسه بأمثالهم. وإن امتنع عذاب الاستئصال في الدنيا إكراما لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم نبي الرحمة، فإن عذاب الآخرة كائن لهم حتما.
وسبب التفرقة بين الفريقين في الجزاء هو:
هل من كان على بصيرة ويقين من أمر دينه، وبما جبل عليه من الفطرة السليمة بتوحيد اللّه، مثل من زيّن له سوء عمله، فرآه حسنا، وهو عبادة الأوثان، والإشراك بالله، واقتراف المعاصي، فإنهم اتبعوا أهواءهم في عبادة الأصنام، وانهمكوا في أنواع الضلالات، بلا شبهة توجب الشك، أو دليل صحيح من المنقول أو المعقول؟ والمعنى: لا يستوي الفريقان.
وهذا توقيف وتقرير على شيء متفق عليه، وهي معادلة بين هذين الفريقين. وقوله تعالى: {عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} معناه على قضية واضحة، وعقيدة نيّرة بيّنة. قال قتادة: الإشارة بهذه الآية إلى محمد صلّى اللّه عليه وسلّم، في أنه الذي على بيّنة من ربه، وإلى كفار قريش في أنهم الذين زيّن لهم سوء أعمالهم، وبقي اللفظ عاما لأهل هاتين الصفتين غابر الدهر.
وهذا دليل على خلود معاني القرآن وألفاظه إلى يوم القيامة.
مثل الجنة وموقف المنافقين من القرآن:
يختلف المؤمنون والكافرون في الاهتداء والضلال، وفي الجزاء والمآل، فيكون للمؤمنين ألوان النعيم في الجنة، وللكافرين والمنافقين أصناف العذاب الدائم في جهنم، ويزيد اللّه المهتدين هدى ويوفقهم للعمل الصالح، ويتعرض الضالون يوم القيامة لعذاب شديد، واللّه سبحانه إله واحد لا شريك له، وهو المتفرد بالحساب، والعليم بتصرف العباد وسكونهم. وهذا ما عبرت عنه الآيات الآتية:

1 | 2 | 3